Logo Logo
متطلبات عصر الإمام الصادق (ع)
متطلبات عصر الإمام الصادق (ع)

متطلبات عصر الإمام الصادق (ع)

متطلبات عصر الإمام الصادق (ع)

بعد الوقوف على مظاهر الفساد والانحراف التي عمّت ميادين الحياة في عصر الإمام الصادق (ع)، نستطيع أن ندرك عمق المأساة التي كان الإمام  (ع) قد واكبها منذُ نشأته حتى هذا التاريخ .

وفي هذا الظرف الذي خفّت فيه المراقبة بسبب ضعف الدولة الاُموية، وجد الإمام (ع) إنّ جانباً كبيراً من الإسلام قد أُقصي عن واقع الحياة، وأنّ قيم الجاهلية قد عادت تظهر للوجود ، وأنّ الصيغ الغريبة عن الدين أخذت تدخل في فهم القرآن والسنة الشريفة، وتسبّبت في تغيير مضمون الرسالة وجوهرها ، لاحظ أنّ الأمر أخذ يزداد تفاقماً في أواخر العهد الاُموي، الذي نمت فيه مدارسٌ فكريةٌ وتياراتٌ سياسيةٌ بعيدةٌ عن الإسلام ، وكان يرى(ع) أنّ الأكثرية الساحقة من الاُمة قد ركنت الى الطمع، بسبب ما شاهدته من صور الظلم والتعسف، الذي قد ارتكب بحقِّ كلِّ من كان يعترض على سياسة الحكّام المنحرفين عن الدين، كلّ هذه الاُمور قد لاحظها الإمام(ع) بدقّة، وبدأ يعالجها بكلِّ أناة. لنقرأ معاً حوار سدير الصيرفي مع الإمام (ع) :

قال سدير الصيرفيُّ: دخلت على أبي عبدالله (ع) فقلت له : والله ما يسعك القعود . فقال ولِمَ يا سدير ؟ قلت : لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك ، والله لو كان لأمير المؤمنين (ع) مالك من الشيعة والأنصار والموالي ما طمع فيه تيمٌ ولا عديٌّ.

فقال يا سدير : وكم عسى أن يكونوا ؟ قلت: مائة ألف . قال : مائة الف! قلت: نعم، ومائتي ألف فقال: ومائتي ألف ؟ قلت: نعم، ونصف الدنيا . قال : فسكت عني ثم قال : يخفُّ عليك أن تبلغ معنا الى ينبع[1]؟ قلت : نعم. فأمر بحمار وبغل أن يُسرَجا، فبادرت ، فركبت الحمار فقال : يا سدير ، أترى ، إنزل بنا نصلّي، ثم قال : هذه أرضٌ سبخةٌ لا تجوز الصلاة فيها فسرنا حتى صرنا الى أرض حمراءَ، ونظر الى غلام يرعى جداء[2].

فقال: والله يا سدير لو كان لي شيعةٌ بعدد هذه الجداءَ ما وسعني القعود. ونزلنا وصلّينا فلما فرغنا من الصلاةَ عطفتُ على الجداء، فعددتها فاذا هي سبعة عشر![3].

فالإمام(ع) إزاء هذا الواقع المملوء بالفساد والضياع، قد وجد أنّ الأمر أحوج ما يكون الى إيجاد تيّار إسلامي أصيل يحمل قيم الرسالة التي جاء بها الرسول (ص) ، ولابدّ أيضاً أن يتمَّ عزل الأمة عن الحكومات الظالمة، لئلا تكون مرتعاً لمظالمها ، فعن طريق غرس القيم الإسلامية، وإيجاد تيار فاعل يساهم في إجتثاث المظالم أو تقليلها يمكن التحرّك لإصلاح الواقع الفاسد، حيث إنّه قد يرغم الولاة على العدل استجابةً لإرادة قطّاع كبير من الاُمة حينما يرفض هذا القطّاع الكبير الاستبداد، ويدعو الى العدل بوعيٍّ إسلاميٍّ عميق.

لقد تخلّى الإمام الصادق (ع) عن ممارسة العمل المسلح ضد الحكّام المنحرفين بشكل مباشر، وكان موقفه هذا تعبيراً واقعياً عن اختلاف صِيَغِ العمل السياسيّ التي تحددها الظروف الموضوعية، وإدراكاً عميقاً منه لطبيعة العمل التغييريّ.

فالإمام (ع) حاول أن ينشر قيمه ومفاهيمه ودعوته بعيداً عن التصريحات السياسية الثورية، واتّجه نحو بناء تيار شعبيٍّ عامٍّ في الاُمة، كما ركّز على بناء الجماعة الصالحة الممثلة لخط أهل البيت (ع)، والإشراف عليها، وتنظيم أساليب عملها في مواجهة الانحراف المستشري في الأُمّة أيضاً، بحيث يجعلها كتلة مترابطةً في العمل والتغيير وإعداد أرضية صالحة تؤدي الى قلب الواقع الفاسد، على المدى القريب أو البعيد.

وقد استهدف الإمام (ع) في نشاطه الرساليِّ لونين من الانحراف.

اللون الأوّل: الانحراف السياسي المتمثل في زعامة الدولة (السلطة الحاكمة).

اللون الثاني: الانحراف العقائدي والفكري والأخلاقي ثم الانحراف السياسي عند الاُمة.

كما إتّجه الإمام(ع) في حركته التغييرية الشاملة الى حقلين مهمين:

أحدهما: الانفتاح العام والشامل على طوائف الاُمة واتجاهاتها السياسية والفكرية.

ثانيهما: مواصلة بناء جامعة أهل البيت (ع) العلمية .

وكلا الحقلين يُعتبران من حقول النشاط العامَ وسنبحثهما في هذا الفصل من هذا الباب.

وأما حقل النشاط الخاص بمحاوره المتعددة، فيتلخّص في إكمال بناء الجماعة الصالحة. وهذا ما سنبحثه في الفصف الثالث من هذا الباب بإذن الله تعالى.


المصادر:

[1] يَنبع حصن له عيون ونخيل وزروع بطريق حاج مصر.

[2]  الجدي : من أولاد المعز .

[3] الكافي : 2 / 242 ، وبحار الأنوار : 47/372 .