Logo Logo
التخصّص العلمي في مدرسة الإمام الصادق(ع)
التخصّص العلمي في مدرسة الإمام الصادق(ع)

التخصّص العلمي في مدرسة الإمام الصادق(ع)

التخصّص العلمي في مدرسة الإمام الصادق(ع)

والتفت الإمام في تلك المرحلة لأهمّية الاختصاص ودوره في إنماء الفكر الإسلامي وتطويره ، وقدرته في استيعاب الطاقات الكثيرة الوافدة على مدرسته ، وبالتخصّص تتنوّع عطاءاته ، فيكون الإبداعُ أعمقَ نتاج وأكثر احتواء، لذا وجّه الإمام (ع) طلاّبه نحو التخصّصات العلمية، وتصدى بنفسه للإشراف فكان يعالج الإشكالات التي تُستجدُّ ، ويدفع مسيرة الحركة العلمية الى الأمام . ولا يمكن في هذا البحث أن نستوعب كلَّ هذه التخصّصات وإنّما نقتصر على ذكر بعض النماذج فيما يأتي :

أ ـ في الطب :

سئل الإمام عن جسم الإنسان فقال (ع) : « إنّ الله خلق الإنسان على إثني عشر وصلاً وعلى مائتين وثمانية وأربعين عظماً، وعلى ثلاثمائة وستين عرقاً، فالعروق هي التي تسقي الجسد كلّه، والعظام تمسكه واللحم يمسك العظام والعصب تمسك اللحم، وجعل في يديه اثنين وثمانين عظماً في كل يد أحد وأربعون عظماً، منها في كفه خمسة وثلاثون عظماً وفي ساعده إثنان، وفي عضده واحد، وفي كتفه ثلاثة، فذلك أحد وأربعون، وكذلك في الاُخرى، وفي رجله ثلاثة وأربعون عظماً، منها في قدمه خمسة وثلاثون عظماً وفي ساقه إثنان، وفي ركبتيه ثلاثة، وفي فخذه واحد وفي وركه إثنان وكذلك في الاُخرى، وفي صلبه ثماني عشرة فقارة وفي كل واحد من جنبيه تسعة أضلاع وفي وقصته ثمانية وفي رأسه ستة وثلاثون عظماً وفي فيه ثمانية وعشرون عظماً أو اثنان وثلاثون عظماً»[1].

يقول الشيخ ميرزا محمّد الخليلي : ولعمري إنّ هذا الحصر والتعداد هو عين ما ذكره المشرّحون في هذا العصر، لم يُزيدوا ولم يُنقصوا[2].

وشرح الإمام الصادق (ع) كيفية دوران الدم في الجسم ولأوّل مرة في حديثه مع المفضّل بن عمر، وقد سبق بذلك العالم ( هارفي ) الذي عُرِفَ بأنه مكتشف الدورة الدموية .

قال (ع) : « فكّر يا مفضّل في وصول الغذاء الى البدن وما فيه من التدبير ، فإنّ الطعام يصير الى المعدة فتطبخه ، وتبعث بصفوه الى الكبد في عروق رقاق واشجة بينها، قد جُعلتْ كالمصفى للغذاء ، لكيلا يصل الى الكبد منه شيءٌ فينكأها وذلك أن الكبد رقيقة لا تحتمل العنف، ثم إنّ الكبد تقبله فيستحيل فيها بلطف التدبير دماً، فينفذ في البدن كله، في مجار مهيّأة لذلك بمنزلة المجاري التي تُهيّأ للماء حتى يطّرد في الأرض كلّها وينفذ ما يخرج منه من الخبث والفضول الى مغايض أعدّت لذلك فما كان منه من جنس المرّة الصفراء جرى الى المرارة، وما كان من جنس السوداء جرى الى الطحال وما كان من جنس البلّة والرطوبة جرى الى المثانة فتأمّل حكمة التدبير في تركيب البدن، ووضع هذه الأعضاء منه موضعها، وإعداد هذه الأوعية فيه لتحمل تلك الفضول لئلاّ تنتشر في البدن فتسقمه وتنهكه، فتبارك من أحسن التقدير وأحكم التدبير»[3].


ب ـ في الوقاية الصحية:

حذّر الإمام من الأمراض المعدية وأوصى بعدم الاختلاط بالمصابين بمثل مرض الجذامَ حيث قال فيه: « لا يكلّم الرجل مجذوماً إلاّ أن يكون بينهما قدر ذراع»[4]، وقد جاء في الطب الحديث أنّ ميكروب الجذام ينتشر في الهواء حول المصاب أكثر من مسافة متر.

وقال (ع) أيضاً : « كُلّ داء من التخمة »[5].

وقال (ع) : « اغسلوا أيديكم قبل الطعام وبعده »[6] فإنّ غسل اليدين قبل الطعام، تعقيمٌ من الجراثيم المحتملة، والغسل بعد الطعام يُعدّ من النظافة .


ج ـ علم الحيوان:

قال (ع) في مملكة النمل : « انظر الى النمل واحتشاده في جمع القوت وإعداده فإنك ترى الجماعة منها إذا نقلت الحبّ الى زُبيتها[7] بمنزلة جماعة من الناس ينقلون الطعام أو غيره، بل للنمل في ذلك من الجدِّ والتشمير ما ليس للناس مثله. أما تراهم يتعاونون على النقل كما يتعاون الناس على العمل، ثم يعمدون الى الحَبِّ فيقطعونه لكيلا ينبت فيفسد عليهم[8] فإن أصابه ندى أخرجوه فنشروه حتى يجف ثم لا يتخذ النمل الزُبية إلاّ في نشر من الأرض كيلا يفيض السيل فيغرقها، وكلّ هذا منه بلا عقل، ولا روّية بل خَلقة خلق عليها لمصلحة من الله عزّوجلّ[9].

وتكلّم الإمام أيضاً في كلٍّ من علوم: النبات ، والفلك ، والكيمياء ، والفيزياء والعلاجات النباتية[10]  كما تكلّم في الفلسفة، والكلام، ومباحث الإمامة،والسياسة، والمعرفة، والفقه، واُصوله والحديث، والتفسير، والتاريخ .

وتخصص من طلاّب الإمام (ع) في مباحث الكلام كلٌّ من: هشام بن الحكم ، وهشام بن سالم ، ومؤمن الطاق ، ومحمّد بن عبدالله الطيّار، وقيس الماهر وغيرهم.

وتخصّص في الفقه واُصوله وتفسير القرآن الكريم : زرارة بن أعين ، ومحمّد بن مسلم، وجميل بن درّاج، وبريد بن معاوية، واسحاق بن عمّار وعبدالله الحلبي، وأبو بصير، وأبان بن تغلب ، والفضيل بن يسار، وأبو حنيفة، ومالك بن أنس، ومحمّد بن الحسن الشيباني، وسفيان بن عيينه، ويحيى بن سعيد، وسفيان الثوري. كما تخصّص في الكيمياء: جابر بن حيان الكوفي .

وتخصّص في حكمة الوجود: المفضّل بن عمر والذي أملى عليه الإمام الصادق (ع) كتابه الشهير المعروف ( بتوحيد المفضّل).

ونشط طلاب الإمام في نتاجاتهم كلاً حسب اختصاصه في التأليف والمناظرة، يدلُّ على ذلك ما جمعه السيد حسن الصدر عن مؤلّفات الشيعة في هذه الفترة وقد ذكر أنها وصلت الى ستة آلاف وستمائة كتاب[11].

وبرز في المناظرة: هشام بن الحكم وكان الإمام الصادق (ع) مسروراً بمناظرات هشامِ وحين استمع مناظراته مع زعيم المعتزلة ـ عمرو بن عبيد  ـ وأخبره بانتصاره عليه قال له الإمام (ع): «يا هشام من علّمك هذا قال: يابن رسول الله جرى على لساني قال الإمام (ع): هذا والله مكتوبٌ في صحف إبراهيم وموسى»[12].

ومن الأهداف الكُبرى التي خطّط لها الإمام (ع) في مدرسته الى جانب الاختصاصات الاُخرى، هو تنشيط حركة الاجتهاد الفقهيّ الخاص، الى جانب التفقّه في الدين بشكل عام .

من هنا نجد تأصيل منهج الاجتهاد الفقهيّ، واستنباط أحكام الشريعة، قد تمثّل في الرسائل العلميّة التي دوّنها أصحابه في خصوص أُصول الفقه، وفي الفقه والحديث، والتي تميّزت بالاعتماد على مدرسة أهل بيت الوحي(ع)، واتّخاذها أساساً للفقه والإفتاء دون الرأيِّ والاستحسان .

قال (ع) : « حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله (ص)، وحديث رسول الله قول الله عزّوجلّ »[13].

وقال (ع) : « إنّا لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا،  لكنّا من الهالكين، ولكنّا نفتيهم بآثار من رسول الله (ص)، وأُصول علم عندنا نتوارثها كابرٌ عن كابر، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم »[14].

وقد تكفّلت كتب اُصول الفقه بيان قواعد استنباط الأحكام ومناهجها وكيفية التعامل مع الأحاديث المدوّنة في عامة موسوعات الحديث واُصوله.

وعلّم طلاّبه كيفية استنباط الأحكام من مصادر التشريع كما علّمهم كيفية التعامل مع الأحاديث المتعارضة. قال(ع) فيما عارض القرآن: « ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرفٌ»[15] وقال أيضاً : « إنّ على كلِّ حقّ حقيقةً، وعلى كل صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه »[16].

وفي حالة تعارض الأحاديث فيما بينها قال (ع) : « إذا ورد عليكم حديثٌ فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله (ص) وإلاّ فالّذي جاءكم به أولى به»[17].

وقال (ع) : « إنّما علينا أن نلقي إليكم الاُصول وعليكم أن تفرّعوا »[18].

وفعلاً كان ذاك وقد ألّف تلاميذه من جمع الأحاديث والدروس التي كانوا يتلونها في مجلسه مجموعة من الكتب تعدّ بمثابة دائرة معارف للمذهب الشيعي أو الجعفري ويبلغ عددها في أيّام الإمام الحسن العسكري(ع) أربعمائة كتاباً[19].فهشام بن الحكم والطاقي وزرارة وأبو بصير ومحمّد بن مسلم من نوابغ تلاميذ الإمام جعفر الصادق(ع) وهم في الحقيقة المرجع الأصلي لفقه المذهب الجعفري أو مذهب الشيعة وحكمته كان خلفاء الإمام جعفر الصادق يُعدَون مورداً فيّاضاً للإستفادة المذهبية والعلمية للشيعة[20].


المصادر:

[1]  المناقب : 4 / 256 ، وبحار الأنوار : 14 / 480 .

[2] طب الإمام الصادق ((عليه السلام)) : 3 .

[3] بحار الأنوار: 3/57 عن كتاب التوحيد للمفضل بن عمر الجعفي .

[4] وسائل الشيعة : 2 / 208 .

[5] بحار الأنوار : 63/336.

[6] المصدر السابق: 63/356

[7] الزبية ـ بضم فسكون ـ الزابية لا يعلوها ماء، جمعها زبى .

[8] اذا خشي النمل من الحبة المدخرة أن تنبت في الأرض فلقتها نصفين، وقد تفلق بعض الحبوب كحب الكزبرة الى أربعة أقسام لأن نصف الكزبرة أيضاً ينبت .

[9] التوحيد للمفضل : 66، وبحار الأنوار: 3/ 61 و 62 / 102 .

[10] راجع حياة الإمام الصادق للشيخ باقر شريف القرشي: 2/289 وما بعدها .

[11] تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : 288 .

[12] راجع الاحتجاج  : 2 / 125 ـ 128 .

[13] أُصول الكافي : 1 / 53 ـ 58 .

[14] بصائر الدرجات : 300 .

[15] الوسائل : 18 / 78 .

[16] اصول الكافي : 1 / 69 .

[17] المصدر السابق .

[18] بحار الأنوار : 2/245 ح 53.

[19] الإمام الصادق والمذاهب الأربعة المجلد الأوّل.

[20] رسالة الإسلام العدد 4 السنة السادسة من مقال الأُستاذ صادق نشأت الأُستاذ بكلية الآداب، القاهرة.